أبوعبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه .
ولقب بالبُخاري: نسبة إلى مدينة “بُخارى” الواقعة في بلاد ما وراء النَّهر، وهي الآن تقع في الجزء الغربي من جمهورية “أُوزبكستان”
مولده ومكان ولادته:
ولد يوم الجمعة ، 13شوَّال194هـ بِبُخارى.
نشأته:
مات أبوه وهو صغير، فنشأ في حِجْر أمِّه، وكان أبوه قد ترك مالاً أعان أمَّه على تنشِئته وتربيته التربية الكريمة.
ذهبت عيناه في صِغَره، فرأت أمُّه خليلَ الرحمن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – في المنام، فقال لها: “يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك أو بكائك”، فأصبح وقد ردَّ الله له بصره.
طلبه للعلم والحديث ورحلاته:
ظهر نبوغه العلميُّ في سنٍّ مبكرة وهو ابن عشر سنين، فبدأ بطلب العلم ببلدِه “بُخَارَى” قبل أنْ يرتحلَ منها، وفي سن السادسة عشر حفظ كُتب ابن المبارك ووكيع.
وقد سُئل البخاري: كيف كان بَدْءُ أمرِكَ؟ قال: “أُلْهِمْتُ حِفظَ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقيل: كم كان سِنُّك؟ فقال: عشر سنين أو أقل، فلمَّا طعنتُ في ست عشرةَ سنة، كنتُ قد حفظتُ كُتب ابن المبارك ووكيع، وعرفتُ كلام هؤلاء، ثمَّ خرجتُ مع أمِّي وأخي إلى “مكةَ”، فلمَّا حَججتُ رجع أخي بها، وتخلَّفتُ في طلب الحديث”.
فكان هذا أول ارتحاله في طلب العلم، ثمَّ رحل إلى المدينة، والشام، ومصر، ونَيسابور، والجزيرة، والبصرة، والكوفة، وبغداد، وواسط، ومرو، والرّيّ، وبَلْخ، وغيرها.
شيوخه:
بعد هذه الرحلات الواسعة لا يُسْتَغْرب قول البخاري – رحمه الله – قبل موته بشهر: “كتبتُ عن ألفٍ وثمانين نفسًا”
ابتدأ السَّماع من شيوخ بلده “بُخارى”، فسمع أولاً من عبدالله بن محمد بن عبدالله بن جعفر بن اليمان الجعفي المسندي، ومحمد بن سلام البيكندي، وجماعة.
وقد قسَّم الحافظ ابنُ حجر شيوخ البخاري إلى خمس طبقات:
الأولى: مَن حدَّثه عن التابعين، وهم أتباع التابعين، مثل محمد بن عبدالله الأنصاري، ومكي بن إبراهيم، وعُبيد الله بن موسى، وغيرهم.
الثانية: مَن كان في عصر هؤلاء لكنَّه لم يسمع من ثِقات التابعين، كآدم بن أبي إياس، وسعيد بن أبي مريم، وأيوب بن سليمان، وأمثالهم.
الثالثة: وهي الوسطى من مشايخه، وهم مَنْ لم يَلْقَ التابعين، بل أخذ عن كبار تَبَعِ الأتباع، كسليمان بن حرب، وقتيبة بن سعيد، وابن المديني، وابن معين، وابن حنبل، وإسحاق، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأمثالهم، وهذه الطبقة قد شاركه “مسلم” في الأخذ عنهم.
الرابعة: رفقاؤه في الطلب، ومَن سمع قبله، كمحمد بن يحيى الذُّهْلي، وعبد بن حُمَيد، وأبي حاتم الرازي، وجماعة من نظرائهم، وإنَّما يخرج عن هؤلاء ما فاته عن مشايخه، أو ما لم يجده عند غيرهم.
الخامسة: وهم في عِداد طلبته في السنِّ والإسناد، وقد سمع منهم للفائدة، كعبدالله بن حمّاد الآملي، وعبدالله بن أبي العاص الخوارزمي، وحسين بن محمد القباني، وغيرهم. وقد روى عنهم أشياء يسيرة، وعمل في الرواية عنهم لما قاله “وكيع”: “لا يكون الرجل عالِمًا حتى يُحدِّث عمَّن هو فوقه، وعمَّن هو مثله، وعمَّن هو دونه”.
تلامذته:
أخذ عنه خلقٌ كثيرٌ لا يُحصَون، قال الحافظ صالح بن محمد: ” كان يجتمع له في “بغداد” وحدَها أكثر من عشرين ألفًا يكتبون عنه”.
وسَمِع منه الصحيح ما يَقْرب من تسعين ألفًا.
وممَّن أخذ عنه من العلماء المشهورين: الإمام مسلم بن الحجَّاج صاحب “الصحيح”، والإمام محمد بن سورة الترمذي صاحب “الجامع”، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيَّان، وابن خزيمة، وصالح بن محمد (جزرة)، وغيرهم كثير.
عبادته:
كان – رحمه الله – إذا دخلت أول ليلةٍ من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلِّي بهم، ويقرأ في كلِّ ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أنْ يختمَ القرآن.
وكان يقرأ في السَّحَر ما بين النِّصف إلى الثُّلث من القرآن، فيختم عند السَّحَر في كلّ ثلاث ليالٍ.
صلَّى ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرَّة، فلمَّا قضى الصلاة، قال: “انظروا أيش آذاني”!!!
ورعه واحتياطه في جَرْحِ الرواة:
قال – رحمه الله -: “أرجو أنْ ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبتُ أحدًا”.
قال الذهبي – رحمه الله – معلِّقًا على كلام البخاري هذا: “قلتُ: صدَقَ – رحمه الله – ومَنْ نَظَرَ في كلامه في الجَرح والتعديل، عَلِمَ ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يضعِّفه، فإنه أكثر ما يقول: “منكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظر”، ونحو هذا، وقلَّ أنْ يقول: “فلانٌ كذَّاب، أو كان يضعُ الحديث”، حتى إنَّه قال: “إذا قلتُ: فلانٌ في حديثه نظرٌ، فهو متَّهمٌ واهٍ”، وهذا معنى قولِه: “لا يحاسبني الله أني اغتبتُ أحدًا”، وهذا هو – والله – غاية الْوَرَع”.
حفظه وذكاؤه:
قال البخاري – رحمه الله -: “أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح”.
وقال: “كتبتُ عن ألف شيخ وأكثر، عن كلِّ واحدٍ منهم عشرة آلاف وأكثر، ما عندي حديث إلا أذكر إسناده”.
قال الإمام ابن كثير: “وقد ذكروا أنَّه كان ينظُر في الكتاب مرَّة واحدةً فيحفظه من نظرةٍ واحدةٍ، والأخبار عنه في ذلك كثيرة”.
قصته عند قدومه بغداد :
قَدِمَ “بغداد”، فسمع منه أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد هذا، وإسناد هذا المتن هذا، ودفعوا إلى كلِّ واحدٍ عشرة أحاديث ليُلْقُوهَا على البخاري في المجلس……
فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: “لا أعرفه”، وسأله عن آخر، فقال: “لا أعرفه”، وكذلك حتى فرغ من عشرته!!!
فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: “الرَّجل فهم”، ومَن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز.
ثم انتدب آخر، ففعل كما فعل الأوَّل، والبخاري يقول: “لا أعرفه”، ثمَّ الثالث، وإلى تمام عشرة الأنفس، وهو لا يزيدهم على: “لا أعرفه”،
فلمَّا عَلِم أنَّهم قد فرغوا، التفتَ إلى الأول منهم، فقال: أمَّا حديثك الأوَّل فكذا، والثَّاني كذا، والثالث كذا إلى العشرة، فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسناده، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقرَّ له الناس بالحفظ.
قال الحافظ ابن حجر: ليس العجب من ردّه الخطأ إلى الصواب؛ فإنه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة!!
وكان من قوة حفظه يسمعُ الحديث في البصرة ويكتبه في الشام, ويسمعه في الشام ويكتبه في مصر.
وكان يأخذ الكتاب فيطَّلع عليه مرة واحدة فيحفظه عن ظهر قلب، وكان أهل المعرفة في البصرة يَعدون خلفه في طلب الحديث، وهو شابٌّ حتى يغلبوه على نفسه, ويُجلسوه في بعض الطريق, فيجتمعَ عليه ألوف، أكثرُهم ممن يكتب عنه, وكان وقتَها شاباً لم ينبت شعرُ وجهه.
وكان يأخذ الكتاب فيطَّلع عليه مرة واحدة فيحفظه عن ظهر قلب، وكان أهل المعرفة في البصرة يَعدون خلفه في طلب الحديث، وهو شابٌّ حتى يغلبوه على نفسه, ويُجلسوه في بعض الطريق, فيجتمعَ عليه ألوف، أكثرُهم ممن يكتب عنه, وكان وقتَها شاباً لم ينبت شعرُ وجهه.
ثناء الأئمَّة عليه:
جعل الله له لسان صدْقٍ عند العلماء وأصحاب التَّراجِم، فما زال العلماء منذ عصره يُثنون عليه وعلى كتابه “الصحيح “وهذه بعض أقوال أهل العِلم عليه:
قال عمرو بن عليّ الفلاس: “حديثٌ لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث”
وقال أبو عيسى الترمذي: “لم أرَ بالعراق، ولا بخراسان في معنى العِلل، والتاريخ، ومعرفة الأسانيد أَعْلَم من محمد بن إسماعيل”.
وجاء “مسلم” إلى البخاري، فقال: “دَعْني أُقبِّلْ رجلَيك يا أستاذ الأستاذين، وسيِّد المحدِّثين، وطبيب الحديث في عِلَلِهِ”
وقال “مسلم” أيضًا: “لا يبغضك إلا حاسدٌ، وأشهد أنَّه ليس في الدنيا مثلك”.
وقال أحمد بن حنبل: “ما أخرجتْ خراسان مثل محمد بن إسماعيل”
وقال ابن خزيمة: “ما رأيتُ تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأحفظ له من محمد بن إسماعيل”.
منعه من التحديث :
لما خرج من نيسابور، عاد إلى بلده بُخارى، فاستقبله الناس، وحدَّث بها أيَّامًا إلى أنْ حَدَثتِ الوحشة بينه وبين واليها الأمير خالد بن أحمد الذُّهْلي؛ حيث سأله أنْ يحضرَ منزله، فيقرأ “الجامع”، و”التاريخ” على أولاده، فامتنع عن الحضور عنده!!!
فراسله بأنْ يعقد مجلسًا لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع، وقال: لا أخصُّ أحدًا، ثم قال للرسول: “أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب النّاس، فإنْ كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجة، فاحضرْ في مسجدي، أو في داري، وإنْ لم يعجبك هذا، فإنَّك سلطان فامنعني من المجلس؛ ليكون لي عذرٌ عند الله يوم القيامة؛ لأنِّي لا أكتمُ العلمَ …”
فوجد عليه الوالي، واستعان بخصومه حتى تكلَّموا في مذهبه، فنُفِيَ عن البلد، فمضى إلى “سمرقند”.
وفاته:
بعد نفيه استقرَّ بإحدى قُرى سمرقند تُدعَى: “خَرْتَنْك”، كان له بها أقرباء أقام عندهم أيَّامًا، مرض مرضًا شديدًا، فسُمِع ليلةً وقد فرغ من صلاة الليل يقول: “اللهم إنَّه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رَحُبَت، فاقبضني إليك”، فما تمَّ الشهر حتى مات.
توفي البخاري ليلة السبت، وهي ليلة عيد الفطر آنذاك، عند صلاة العشاء، ودُفِنَ يوم الفطر بعد صلاة الظهر بخَرْتَنْك، سنة ست وخمسين ومائتين، عاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا، فجزاه الله عن المسلمين خيرًا، وأجزل مثوبته.
قال الطواويسي: “رأيتُ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – في النوم، ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقفٌ في موضع؛ فسلمت عليه، فردَّ عليَّ السلام، فقلتُ: ما وقوفكَ يا رسول الله؟ قال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري. فلما كان بعد أيام؛ بلغني موته؛ فنظرتُ فإذا قد مات في الساعة التي رأيتُ النبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيها”
رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، ورضيَ عنه، وجمعنا به في دار كرامته .
أهم مصنفاته:
أجلُّها: “الجامع الصحيح”، “الجامع الصغير”، “الجامع الكبير”، “الأدب المفرد”، “أسامي الصحابة”، “الأشربة”، كتب التاريخ: الكبير والأوسط والصغير، “التفسير الكبير”، “خلق أفعال العباد”، “رفع اليدين في الصلاة”، “الضعفاء الصغير”، “العلل”، “الفوائد”، “القراءة خلف الإمام”، “قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم”، “الكُنَى”، “المبسوط”، “المسند الكبير”.
“التعريف بصحيح البخاري”
ويعرف باسم: “الجامع الصّحيح” أمَّا اسمُه الذي سمَّاه به مؤلِّفه:
ويعرف باسم: “الجامع الصّحيح” أمَّا اسمُه الذي سمَّاه به مؤلِّفه:
“الجامع الصَّحيح المسند من حديث رسولِ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وسُنَنه وأيَّامه”.
سبب تصنيفه:
ذَكَرَ الحافظ ابن حجر ثلاثةً من الأسباب الباعِثة لتصنيف البخاري “الجامع الصّحيح” وهي بايجاز:
أوَّلاً: تجريد الحديث النَّبويِّ: فإنَّه في آخر عصر التَّابعين ابتدأ تدوين الحديث النَّبوي, وكان التدوين ممزوجًا بأقوال وفتاوى الصَّحابة والتَّابعين, وغيرها, بالإضافة للحديث, وكذا كانت هذه التَّآليف جامعةً بين الحديث الصَّحيح والحسن والضَّعيف والمعلول وغيره.
ثانيًا: سمع البخاري شيخه ومعلِّمه أمير المؤمنين في الحديث إسحاق بن راهويه يقول: “لو جمعتُم كتابًا مختصرًا لصحيح سنَّة رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم”، قال البخاري: “فوقع ذلك في قلبي فأخذتُ في جمع الجامع الصَّحيح”.
ثالثًا: قال البُخاريُّ – رحِمه الله -: “رأيتُ النَّبيَّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – في المنام وكأنَّني واقفٌ بين يديْه, وبِيدي مروحةٌ أَذُبُّ بها عنه، فسألتُ بعض المعبِّرين, فقال لي: أنتَ تَذُبُّ عنه الكذِب، فهو الَّذي حَملني على إخراج الجامع الصَّحيح”.
مدَّة تصنيفه:
قال البخاريُّ – رحمه الله -: “صنَّفتُ الجامع الصَّحيح لستَّ عشرة سنة”.
وقال: “لم أخرِّج في هذا الكتاب إلاَّ صحيحًا، وما تركتُ من الصَّحيح أكثر”
مدى عنايته في تأليفه:
لم يَأْلُ البخاري – رحمه الله – جهدًا في العناية بهذا المؤلَّف العظيم، يتَّضِح مدى هذه العناية بقولِه: “ما أدخلتُ فيه حديثًا إلاَّ بعد ما استخرتُ الله تعالى، وصلَّيتُ ركعَتَين، وتيقَّنتُ صحَّتَهُ”،
شرط الإمام البخاريّ في كتابه “الجامع الصَّحيح”:
لخَّص ابن حجر الشُّروط فقال: “إنَّ شرط الصَّحيح أنْ يكون إسناده متَّصلاً، وأنْ يكون راويه مسلمًا، صادقًا، غير مدلِّسٍ، ولا مختلِطٍ، متَّصفًا بصفات العدالة، ضابطًا، متحفّظًا، سليم الذّهن، قليل الوهم، سليم الاعتقاد”.
وكان من شرط البخاري في “الجامع” اشتراط المعاصرة، وتحقُّق اللِّقاء بين الرَّاوي وشيخه إذا روى عنه بالعنعنة.
والإمام مسلم كان يكتفي باشتراط المعاصرة ولا يشترط الالتقاء.
والإمام مسلم كان يكتفي باشتراط المعاصرة ولا يشترط الالتقاء.
منهج البخاري في كتابه “الجامع”:
رتَّب الإمام البخاري الأحاديث على الكتُب مفتتحًا “الجامع” بكتاب: بَدء الوحي، مختتِمًا بكتاب: التَّوحيد، ثمَّ إنَّ هذه الكتب يحتوي كلٌّ منها على أبوابٍ متناسقةٍ في إيرادها، وتحت كلِّ بابٍ عددٌ من الأحاديث.
وقصد البُخاري في صحيحِه إبراز فقه الحديث، واستنباط الفوائد منه، فعقد تراجم الأبواب – أي: عناوين الأبواب – وذَكَرَ في هذه التراجم الأحاديثَ المعلَّقة، وكثيرًا من الآيات وفتاوى الصَّحابة والتَّابعين ليبيِّنَ بها فقْه الباب والاستِدلال له، وبهذا يكون قد جمعَ بين حفظ سنَّة رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وفهْمِها.
عدد أحاديث الجامع:
عند ابن الصَّلاح والنَّووي عدد أحاديثه مع المكرَّرات: (7275) حديثًا، وبحذْف المكرَّرات (4000) حديثًا.
وأمَّا ابنُ حجر فقال: “فجميع أحاديثِه بالمكرَّر سوى المعلَّقات والمُتَابعات على ما حرَّرته وأتقَنتُه (7397) حديثًا”، ثمَّ قال:
“فجميع ما في صحيح البُخاري من المتون الموصولة بلا تكرير على التَّحرير (2602)، ومن المتون المعلَّقة المرفوعة الَّتي لم يوصلها في موضعٍ آخَر من الجامع المذكور (159) حديثًا، فجميع ذلك (2761) حديثًا، وبين هذا العدد الَّذي حرَّرتُه والعدد الذي ذكره ابنُ الصَّلاح وغيرُه تفاوتٌ كثيرٌ، وما عرفتُ من أينَ أتى الوهم في ذلك، ثمَّ تأوَّلتُهُ على أنَّه يحتمل أن يكون العادُّ الأوَّل الَّذي قلَّدوه في ذلك كان إذا رأى الحديث مطوَّلاً في موضعٍ ومختصرًا في موضعٍ آخَر يظنُّ أنَّ المختَصَرَ غير المطوَّل؛ إمَّا لبعد العهْد به أو لقلَّة المعرفة بالصِّناعة، ففي الكتاب من هذا النَّمط شيء كثير، وحينئذٍ يتبيَّن السَّبب في تفاوُت ما بين العددين، والله الموفِّق”.
تكرار البخاري لبعض الأحاديث في الجامع:
البخاري – رحمه الله – في بعض الأحيان يذكُر الحديث في كتابِه في عدَّة أبوابٍ، ويستدلُّ به في كلِّ بابٍ بإسنادٍ آخر، وإذا كان للحديث عنده على شرطه طريقٌ واحدة فيتصرَّف حينئذٍ فيه، فيورده في موضعٍ موصولاً، وفي موضعٍ معلَّقًا، ويورده تارةً تامًّا، وتارةً مقتصرًا على طرفه الَّذي يحتاج إليه في ذلك الباب.
وقلَّما يورد حديثًا في موضعَين بإسنادٍ واحدٍ، ولفظٍ واحدٍ، وإنَّما يُوردُه من طريقٍ أخرى؛ وذلك لمعانٍ، منها:
♦ يُخرج الحديث عن صحابيٍّ ثمَّ يورده عن صحابيٍّ آخَر، والمقْصود منه أنْ يخرج الحديث عن حدِّ الغرابة.
♦ ومنها أحاديث يَرويها بعض الرُّواة تامَّةً، ويرويها بعضُهم مختصرةً، فيُوردها كما جاءت ليزيلَ الشُّبهة عن ناقليها.
♦ ومنها أنَّ الرُّواة ربَّما اختلفتْ عِباراتُهم فحدَّث راوٍ بحديثٍ فيه كلمة تحتمِل معنى، وحدَّث به آخَر فعبَّر عن تلك الكلِمة بعينها بعبارةٍ أُخرى تحتمل معنًى آخر، فيورده بطرقه إذا صحَّت على شرطه ويُفْرِدُ لكلِّ لفظةٍ بابًا مفردًا.
♦ أوردَ أحاديث تعارض فيها الوصل والإرسال، ورَجَحَ عنده الوصْل، فاعتمده وأوْرد الإرسال منبِّهًا على أنَّه لا تأثير له عنده في الوصل، وكذا ما تعارض فيه الوقف والرَّفع.
♦ أورَدَ أحاديث زاد فيها بعض الرُّواة رجلاً في الإسناد، ونقَصَه بعضُهم، فيوردها على الوجهَين حيث يصحُّ عنده أنَّ الراوي سمعه من شيخٍ حدَّثه به عن آخَر، ثمَّ لقِيَ الآخَرَ فحدَّثه به؛ فكان يرويه على الوجهين.
♦ أنَّه ربَّما أورد حديثًا عنْعَنَهُ راويه، فيُورده من طريقٍ أُخرى مصرَّحًا فيها بالسَّماع على ما عرف من طريقته في اشتراط ثبوت اللِّقاء في المعنعن.
معلقات البخاري في الجامع وحكمها:
الحديث المعلَّق هو: “ما حُذِفَ من مبتدأِ إسنادِه راوٍ واحدٌ فأكثر، ولو إلى آخِر الإسناد”.
وقد ألَّف الحافظ ابنُ حجر في وصل تعليقات البُخاري كتابًا سمَّاه “تغليق التَّعليق” واختصر هذا الكتاب في مقدّمة “الفتح”، أي: في “هدي السَّاري” في فصلٍ طويلٍ ذكر فيه تعاليقَه المرفوعة والإشارة إلى مَن وصلها، وكذا المتابعات لالتِحاقها بها في الحكم.
وحاصل الحُكْمِ على المعلَّقات في الجامع أنَّ البخاري أوردها إمَّا مرفوعةً أو موقوفةً
فالمعلَّقات من المرفوعات على قسمين:
أحدُهما: ما يُوجد في موضعٍ آخرَ من كتابه موصولاً، وهذا لا إشكال فيه.
وثانيهما: ما لا يوجد في كتابِه إلاَّ معلَّقًا، فإنَّه على صورتَين:
الأولى: ما أورده بصيغة الجزْم، فيُستفاد منه الصِّحة إلى مَن علَّق عنه، لكنْ يبقى النَّظرُ فيمَن أبرز من رجال ذلك السَّند، فمنها ما يلتحق بشرْطِه ومنها لا يلتحق.
الثَّانية: ما أورده بصيغة التَّمريض: ففيه ما هو صحيحٌ، وفيه ما ليس بصحيح.
وأمَّا المعلَّقات من الموقوفات، فقد قال الحافظ ابنُ حجَر: “وأمَّا الموقوفات فإنَّه يُجزم منها بما صحَّ عنده ولو لم يكن على شرْطِه، ولا يُجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع إلاَّ حيث يكون منجبرًا، إمَّا بمجيئه من وجهٍ آخر، وإمَّا بشهرته عمَّن قاله”.
مكانة الجامع الصّحيح العلمية:
قال الإمام النّووي – رحمه الله -: “اتَّفق العُلماء – رحمهم اللّه تعالى – على أنَّ أصحَّ الكتب بعد القرآن العزيز الصَّحيحان: البخاري ومسلم، وتلقَّتهما الأمّةُ بالقبول، وكتاب البخاري أصحُّهما، وأكثرهما فوائد .
وقد صحَّ أنَّ مسلمًا كان ممَّن يَستفيد من البُخاري، ويعترفُ بأنَّه ليس له نظير في علم الحديث.
فهو أوَّل مُصَنَّفٍ صُنِّف في الصَّحيح المجرَّد، ثم تبعه مسلم.
قال الفَرَبْرِي: “سمع الصَّحيح من البخاري تسعون ألفَ رجُل، فما بقي أحدٌ يرويه غيري”.
أهمّ شروح الجامع:
حَظِيَ صحيح البُخاري بعناية العلماء والمؤلِّفين شرحًا له، واستنباطًا لأحكامه، وتكلُّمًا على رجالِه، وبيانًا لمشكلات إعرابه، إلى غير ذلك، فلذلك كَثُرَت شروحُه، وسأذكر فيما يلي بعض الشُّروح المطبوعة:
“أعلام الحديث”: لأبي سليمان حَمد بن محمَّد الخَطَّابي، المتوفَّى سنة (388) هـ.
“شرح صحيح البخاري لابن بطَّال”: وهو أبو الحسن عليّ بن خلف المالكي، المتوفَّى سنة (444) هـ.
“الكواكب الدَّراري شرح صحيح البخاري”: لمحمَّد بن يوسف الكَِرماني، المتوفَّى سنة (786) هـ.
“التنقيح لألفاظ الجامع الصَّحيح”: لبدر الدّين الزّركشي، المتوفَّى سنة (794) هـ.
“فتح الباري بشرْح صحيح البخاري”: للإمام أحمد بن عليِّ بن محمَّد، ابن حجر العسقلاني الشَّافعي، المتوفّى سنة (852) هـ.
“عمدة القاري شرح صحيح البخاري”: لبدر الدِّين محمود بن أحمد العيني، المتوفَّى سنة (855) هـ.
“إرشاد السَّاري لشرح صحيح البخاري”: للشَّيخ شهاب الدّين أحمد بن محمَّد الخطيب القسطلاني، المتوفَّى سنة (922) هـ.
هل البخاري معصوم؟
ما قال أحدٌ قط: إن البخاري أو غيره من حَمَلة السنة ورُواتها معصومون، بل ولا أحد من الصحابة معصوم، إذًا ممكن أن يخطئ البخاري؟ قطعًا ممكن ذلك.
لكن صحيح البخاري لم يأخذْ هذه المكانة والمنزلة لأن البخاري هو الذي جمع هذه الأحاديث؛ بل أخَذَ هذه المكانةَ والمنزلة؛ لأن الأمة كلَّها تلقَّت صحيحه – وكذلك صحيح مسلم – بالقَبُول، واتَّفَقت الأمة على أن جميع ما في البخاري ومسلم صحيح، وأنهما أصحُّ كتابين بعد كتاب الله – عز وجل.
وليس من الممكن أن تجتمع الأمة كلُّها على باطل طوال اثني عشر قرنًا مضت، حتى يأتي هؤلاء الآن ليقولوا للأمة: أفيقي أيتها الأمة؛ فأنت تتعبَّدين لله على باطل منذ ألف ومائتي عام!
إذًا فصحيح البخاري حاز هذه المكانة من إجماع الأمة على مكانته وقدره، وليس لأن البخاري هو جامعُه، مع أن البخاري – رحمه الله – جدير بذلك.
كذلك فإن البخاري – رحمه الله – لم يأتِ بأحاديث من قِبَل نفسه ويقول: هذه أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بل البخاريُّ – رحمه الله – قال: هذه الأحاديث حدثني بها مشايخي فلان وفلان، وذكر أسماء مشايخه وذكر أحاديثهم.
إذًا نصل إلى أن البخاري ليس معصومًا، وكذلك ليس فيه حديث ضعيف أو خطأ، لماذا؟
أختصر الأسباب، فأقول:
1- لأن البخاري إمام جليل القدر، عظيم الشأن، أعلمُ المسلمين بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد اختار أحاديثه بعناية فائقة، وحرص شديد.
2- لأن علماء الحديث لم يتلقوا الأحاديث من البخاري وقالوا: سمعنا وأطعنا، بل بحثوا في هذه الأحاديث، ودرسوها بعناية فائقة، وعرَضوها على المنهج العلمي الصحيح في اختيار الأحاديث، فانبهروا بهذا الكتاب، وأخذتْ قلوبَهم روعةُ الأسلوب في ترتيب الأحاديث، ووضع التراجم لها، وعظمة البخاري، ودقته في اختيار الأحاديث، فشهدوا له بصحة اختياره.
3- لأن الأمة أجمعتْ على صحة كتاب البخاري، والأمة ليست أمة غبية حتى تجتمع على باطل.
4- لأن البخاري لم ينفردْ برواية هذه الأحاديث، بل شاركه في إخراجها كبار علماء الإسلام، ولو حذفت الأحاديث من البخاري، أو فُقد الكتاب أصلاً، فستظل الأحاديث موجودة بحفظ الله لها.